اليوم وأثناء مزاولتي العمل كما العادة، زارني كهل من ملامحه أنه في نهاية الخمسينيات أو في الستينيات من عمره. في الحقيقة، كان قد زارني بالأمس مستفسرا عن حالة ابنه الذي يعاني من آلام في فكِّه. طلبت منه أن يحضر التصوير الاشعاعي وأن يصطحب ابنه في المرة القادة، وهذا ما قد فعله اليوم.
كما أخبرني سابقا، فالابن معاق ذهنيا وحركيا. بعد معاينتي للتصوير الاشعاعي الذي بالكاد يبين سبب المشكلة، طلبت من الوالد أن يجلس ابنه على كرسي الأسنان.
لتتضح الصورة أكثر، فالولد يبلغ من العمر 17 عاما.اذا نظرت إلى وجهه فهو فتى كباقي أقرانه، يعني لايظهر على ملامحه مايحمل جسده من إعاقات ولكن في الوقت ذاته وجهه خال من أي ملامح، عيناه لا تركزان في شيء، فقط ملامح فارغة ربما تحكي فراغ روحه. معقوف اليدين يمشي بخطوات متمايلة بالكاد تقوى رجلاه على حمله. بين يديه يحمل قارورة بلاستيكية فارغة لاتفارقه أبدا -هذا حسب تصريحات والده ومما يظهر من تصرفاته فيما يلي-
فور وصول الأب ودخول ابنه معه، جلس الولد على الارض ملاعبا قارورته بينما كان الأب يشرح لي قائمة أمراض ولده ومايعانيه من ألام وتفاصيل أشواطه بين الأطباء والمستشفيات.
لم أرد أن أكون رسميا فأردت أن أعاين الولد على حاله ودون جعله يجلس على كرسي الأسنان، أخذت خافض اللسان (عصا خشبية لفحص الفم) وأردت أن أعاين صحة فم الفتى الذي كان جالسا على الأرض، الله أعلم ما تحمله تلك الأرضية من جراثيم وأمراض. المهم، بالكاد فاتحا فمه، كنت أعاين أسنانه وهو يحاول أن يعض خافض اللسان، كنت حرفيا أصارع لسانه، شفاهه وعضلات خدوده. لما استيأست من إمكانية معاينته على هذه الحال، طلبت من والده أن يجلسه على الكرسي حيث الإضاءة أفضل وحيث يمكنني أن أجلس لمصارعة منعكس عضه لخافض الأسنان.
بعد أن أجلسته ناديت على مساعدي وطلبت منه أن يبقي فم المريض مفتوحا بوضع حزمة من خوافض اللسان بين فكي المريض، من الفحص تبين أن للفتى ضرسين متسوسين ولكن ليس بالصورة اللي قد تسهره الليل أو تجعله يضرب فكه من الألم (على الأقل حسب اعتقادي). في المقابل وجدت أن ضرس العقل مطمور في جهة الألم ما يرجح كونه السبب في هذه المعاناة. للأسف فالصورة الاشعاعية للمريض كانت خلف-سنية وقد أخطأت ضرس العقل بميلمترات فقط، وحتى هذه الصورة جعلتني أستغرب كيف استطاع الطبيب المعاين سابقا أن يأخذها في مثل هذه الظروف ومع هذا النوع من المرضى. بين هذا وذاك وأثناء المعاينة كان الولد ينحني ليلتقط قارورته البلاستيكية كلما سقطت من يده وكأنها أعز ما يملك. تتوقف المعاينة ويتوقف كل شيء فقط حتى يتسنى له حمل قارورته.
على كل بعد هذه المعاينة بقيت متحيرا في سبب الألم هل هو بسبب الضرس المتسوس أم الضرس المطمور.
في العيادة التي أعمل بها، ليس لدينا غاز أكسيد الآزوت أو ما يسمى بغاز الضحك لتهدأة المريض وأيضا لا يوجد اختصاصي في التخدير، لذلك ماكان علي سوى ارسال المريض لمستشفى أكبر حيث يجد اختصاصي التخدير واختصاصيا في التجميل وجراحة الفك.
على كل بعد هذه المعاينة والخروج بهذه المعطيات وأثناء شرحي لما خرجت به من هذه المعاينة، دار بيني وبين والد المريض حوار باح فيه عن مكنوناته تجاوه ولده وفلذة كبده. اشتكى الأب مما يعانيه ومما تعانيه أم الولد أكثر. عندما أخبرت الأب أنه لعلاج إبنه يجب أولا أن نقوم بتصوير بانورامي للفك ليتبين حال الضرس المنطمر ثم بعد هذا عليه أن يتوجه إلى مستشفى أكبر حيث يتسنى للطبيب المختص أن يعالج ابنه بعد تخديره وتنويمه من طرف اختصاصي الانعاش.
هنا تمتم الأب ثم أعاد قولها صراحة: هكذا اذا هي الحال سٱخذه ليتم تنويمه لايهم سواء استيقظ ام لا. اما ان تتوقف معاناة والم الولد أو تتوقف معاناتي أنا وأمه. ثم أردف قائلا، بالنسبة لمعاناتي ليست بالشيء الكثير مقارنة بأمه، ما علي سوى شراء الحفاظات والجري به بين الأطباء عند مرضه، أما أمه فهي من تعتني به تطعنه وتغير حفاظاته لسبعة عشر عاما، لم نعد نحتمل أكثر من هذا.
حاولت أن أخبره أن سعيه في طلبه الرزق لأولاده والصبر في ذلك هو جهاد بحد ذاته فكيف إن واحدا من الأبناء بمثل حال ابنه. لم يعجبني تذمره من بقاء ابنه على قيد الحياة وما ٱلمني أكثر قوله أن الأم أيضا تدعو على ابنها في بعض الأحيان.
أن يصل الأمر بالأبوين أن يتذمرا من بقاء ابنهما على قيد الحياة وتمنياتهما له بالموت والذي يخالف جميع غرائز عالم الحيوان وفطرة الإنسان يعني المعاناة وصلت لحد لا يطاق وأن السكين قد وصلت إلى العظم كما يقال.
في نصحي له بالاحتساب ملتمسا له العذر ختمته بأن حملهما حقا ثقيل وأنه لا يحس بالجمر إلا من قد اكتوى به.
لكن ما حز في نفسي هو أنه لم يكن كافيا للولد ما يعانيه في جسده حتى يسمع من أقرب الناس إليه، والديه الذين أنجباه في هذا العالم ما يهد الجبال.
على كل، أرجو أنه كما يظهر على وجه الفتى من فراغ، أرجو أن تكون روحه غائبة عن واقعه يسبح فكره في عالم خال من المعانة.
في الأخير وبعد تعمق في هذه الحالة الاجتماعية تجد أن الملام يقع على عاتق الدولة التي أهملت شعبها، هنشته ولم توفر له أبسط متطلبات الحياة. كان حريا بالدولة أن توفر الرعاية اللازمة لمثل هؤلاء المرضى. من غير المعقول أن يتحمل الأباء عناء السفر والتنقل بين المستشفيات التي لا ترقى لأن تكون مستوصفات، فقط بنايات خالية من المعدات والكفاءات المؤهلة. ما كان لهذين الأبوين أن يتمنيا موت ولدهما لو لم يلقيا فيه ما لقيا من معاناة، وماكانا ليتمنيا موته لو وجدا الدعم وحسن التكفل بفلذة كبدهما.
حقا صدق من قال كاد الفقر أن يكون كفرا، فعندما يجتمع الفقر مع المرض يتولد القهر الذي تنوء بحمله الشم الراسيات.
تستفيض متأملا، ماذا لو بليت في أولادك مستقبلا إن شاء الله بمثل ما قد بلي به هذان الأبوان؟
نرى سهام البلايا تصيب عن أيماننا وشمائلنا ولا نشكر لله معافاته لنا وكأن العافية خلقت لنا حقا مستحقا ولغيرنا قدرا محتما.
في الأخير لا يسعني إلا أن أقول الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا.